الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك: «الدعاء مخ العبادة».هذا، ولا يقال إن الإنسان يدعو فلا يستجاب له، لأن للدعاء شروطا وآدابا أمها الإخلاص، وأبرها اليقين، وملاكها أكل الحلال، وقوامها رد المظالم، فالتخلف يكون من جهة الداعي لا من جهة الإله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء القائل {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقد يكون الداعي يدعو وقلبه مشغول بغير الدعاء وقد يدعو بما لا مصلحة له به ولا فائدة لغيره أو بما فيه قطيعة رحم أو تعد على الغير، وقد يدعو فيما فيه المصلحة والصلة، ولكنه غير متيقن بالدعاء ولا موقن بالإجابة، أما إذا اتصف بالشروط المطلوبة فيكون جديرا بالإجابة حالا أو مآلا بحسب المصلحة المقدرة، واللّه أكرم من أن يرد سائله من بحر جوده الذي لا ينضب وواسع عطائه الذي لا ينفد، وقدمنا في الآية 111 من سورة الإسراء ما يتعلق في هذا البحث بصورة واسعة، فراجعها وما ترشدك إليه، وله صلة في الآية 185 من سورة البقرة في ج 3 فراجعها أيضا.قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} تأخذوا راحتكم من التعب بالنوم والاضطجاع وأنكم من الوحشة باجتماعكم بنسائكم وأولادكم {وَالنَّهارَ مُبْصِرًا} لتتمكنوا فيه من قضاء حوائجكم وأشغالكم من من غير حاجة إلى ضياء آخر ولتقوموا فيه بوسائل معاشكم وتتعرفوا فيه لفضل ربكم فتصيبوا منه حظكم {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} عظيم لا يوازيه فضل في هذا وفي غيره {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} 61 فضله ولا يراعون حقه فيمنع استمرار نعمه عليهم لعدم شكرهم إياها، وإذا لم يسلبها منهم يسلبها من أولادهم، وهذا مما لا يمتري فيه أحد، لأنه واقع مشاهد {ذلِكُمُ} الإله العظيم كاشف الكربات ومجيب الدعوات الفعال لما ذكر هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ 62} بنسبة هذا لغيره وتنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره وتختلقون له أندادا وهو لا مثل له وتفترون له شركاء وهو المنفرد في السموات والأرض وتكذبون بقولكم إن اللّه أمرنا بهذا وهو لم يأمركم به {كَذلِكَ} مثل هذا الإفك الواقع من قومك يا محمد {يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا} من قبلهم {بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ 63} ويكذبون الرسل الذين جاءوهم بها أيضا، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرارًا} تستقرون عليها في حلّكم وترحالكم {وَالسَّماءَ بِناءً} كالسقف المرفوع الذي تستظلون به من الشمس والمطر والرياح وغيرها ولكن شتان بين بنائكم وبنائه وظلالكم وظلاله.وفي هذه الآية إشارة إلى كروبة الأرض، راجع الآية 9 من سورة لقمان المارة وما تدلك عليه من المواقع {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بأن ميزكم عن الحيوانات باعتدال القامة والأكل باليد والنطق واللباس والحسن والعلم {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} غير رزق الحيوانات مما لذّ وطاب {ذلِكُمُ} الرب الجليل المدبر لذلك كله والمنعم بما هنالك هو {اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ 64} مؤمنهم وكافرهم إنسهم وجنهم وملكهم وحيواناتهم وطيورهم ووحوشهم وحيتانهم وحشراتهم وديدانهم وعوالم اللّه لا تحصى، وقد رتب الخلق جل جلاله على ثلاث مراتب: الطفولة وهي مرتبة النشوء والنماء، وبلوغ الأشد وهي مرتبة كمال التزايد إلى قبيل تطرق الضعف، والشيخوخة وهي مرتبة التراجع حتى بلوغ أرذل العمر، فالذي قسم هذا التقسيم {هُوَ الْحَيُّ} الباقي وما سواه هالك، وفيما تقدم أشار أولا لفضله المتعلق بالمكان بعد أن أشار فيما قبل إلى فضله المتعلق بالزمان، وهنا أشار إلى العلم التام والقدرة الكاملة والحياة الدائمة، ثم ختم بالدلالة على محض وحدانيته بقوله {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ} أيها الناس كلكم برّكم وفاجركم لا تشركوا معه غيره حالة كونكم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقولوا بنهاية دعاءكم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ 65} والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، ولما كلف بعض كفرة قريش مكة حضرة الرسول لعبادة أوثانهم، وكان هذا التكليف قد تكرر منهم عند كل مباحثة في أمر الدين أنزل اللّه تعالى قطعا لأطماعهم عن ذلك {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء الملحين عليك بما لا يكون منك {إِنِّي نُهِيتُ} نهيا باتا ومنعت منعا جازما من قبل ربي الحق الواحد {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من جميع الأوثان {لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي} ببطلانها وعدم نفعها {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} إسلاما محضا حقيقيا {لِرَبِّ الْعالَمِينَ 66} وحده لا شريك له وأن أدعوكم لعبادته من حين تشريفي بالنبوة إلى وقت انقضاء أجلي لا أفتر ولا أحول عن هذا أبدا، وقد جاءت هذه الآيات الثلاث مختومة بلفظ رب العالمين جل جلاله، ولم يسبق مجيئها على هذا النمط ولا تعد مكررة، لأن مبدأ كل آية منها ومغزاه يغاير الأخرى، فالأولى للشكر على أفضاله، والثانية على توحيده، والثالثة على الاستسلام إليه، فتدبر أيها القارئ إذا أردت أن تظفر وتفوز بمعرفة كلام اللّه.واعلم أن المستحق للعبادة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} أي خلق أباكم آدم عليه السلام الذي هو أصلكم {مِنْ تُرابٍ} وخلق زوجته حواء منه من لحم وعظم ودم {ثُمَّ} خلقكم أنتم ذريته كلكم {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} جعل جل شأنه مراتب الإنسان بعد خروجه من رحم أمه ثلاثة.
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} من قومك يا محمد {وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ} التي كانوا فيها أولئك المتمردون ومصانعهم وقصورهم فيها تدل على ذلك، لأنها منها ما هو باق حتى الآن فضلا عن وجودها زمن نزول القرآن وأن البشر الآن يعترف بعجزه عن الإتيان بمثل ما شيدوه من البناء والصروح وعظم هندستها وقوة إتقانها ومع ذلك كله {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 82} فيها من وقايتهم من عذاب اللّه، وقد مرّ نظير هذه الآية في الآية 21 من هذه السورة ولا تعد مكررة لما في هذه من الألفاظ ما ليس في تلك.ولذلك ذمهم اللّه تعالى بقوله {ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} الآية 30 من سورة النجم في ج 1، وقوله بما يقارب هذه الآية لفظا ومعنى {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} بأمور الدنيا وتدبيرها واستغنوا عما جاءهم به الأنبياء ولم يعلموا أن ذلك وحده جهل في الحقيقة إذا لم يضموا إليه العلم بأمور الآخرة، ولذلك ذمهم اللّه في الآية 9 من سورة الروم الآتية بقوله {يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} وفي الآية 66 من سورة النمل المارة في ج 1 بقوله {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} ولهذا فقد لحقتهم الخيبة وغشيهم الغم والحزن على ما فرحوا به في الدنيا {وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 83} على الأنبياء وما جاءوهم به وذلك فرحهم بالسخرية على ما يبلغونهم من الأوامر والنواهي والآداب الإلهية حتى أنزل اللّه فيهم {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} الآية 12 من الصافات المارة، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا} عذابنا وقد أحاط بهم من كل جانب {قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ 84} في الدنيا مع أنهم كانوا يشمئزون من ذكر اللّه وحده ويفرحون بذكر آلهتهم كما نعى اللّه عليهم حالتهم بقوله {وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} الآية 45 من سورة الزمر المارة ومثلها الآية 46 من سورة الإسراء في ج 1، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا} لأنه لا إيمان في حالتي البأس واليأس، ولا توبة مقبولة أيضا في هاتين الحالتين وهذه {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ} ولا مجال لتبديل ما سنّه اللّه، راجع الآية 158 من سورة الأنعام المارة والمواضع التي تدلك عليها {وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ 85} لأنهم لم يعرفوا ذلك الخسار إلا عند إملاكهم ولا يلجأون إلى التوبة إلا في غير إبانها وإلا فهم خاسرون دائما حال نزول العذاب وقبله وبعده، ومجموع جملة وخسر إلخ بحساب الجمل 1360 مثل الجملة المارة في الآية 173 من سورة الصافات، فنسأل اللّه أن يدمر الكفرة وبعلي كلمة الإسلام من الآن فصاعدا، وأن يديم خسار الكفرة وخاصة اليهود، ويجمع شمل المؤمنين ويديم ربحهم، ويرفع رتبتهم على من سواهم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة، هذا، واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين. اهـ.
|